تشكيــل..
الوقائـع
الفنيـة
روجيرو
جييانجكومي ... سحر الصويرة
افتتاح
رواق خزفيات الفنان التشكيلي الإيطالي روجيرو جييانجكومي
الوقائـع بريـس
عبد الله الشيخ
تعزز المشهد التشكيلي والإثنوغرافي بالصويرة
بافتتاح رواق خزفيات الفنان التشكيلي
الإيطالي الأصل روجيرو جييانجكومي (مواليد أنكونا 1930) بقاعة المنزه بمبادرة من طرف مديرية وزارة
الثقافة و الاتصال. أذكر معرضه التاريخي لفن السيراميك بفندق الجزر بالصويرة عام
1991. قدم الراحل بهذه المناسبة سجل متنوع من الأعمال الفنية تحيل من حيث قيمتها
البصرية على روائع الخزفيات الرومانية ذات
العمق التاريخي والمحمول الأسطوري السحري. من عوالم هذه المدرسة الرومانية
المرجعية، يطالعنا مسار روجيرو، إنسانا ومبدعا، إذ ساهم بشكل فعال في إحياء المجد
الثقافي لمدينة الصويرة وعبرها حقق، بالقوة وبالفعل، رهان العالمية.
في سنة 1997، بادر هذا الفنان الإنساني بامتياز إلى إحداث
مكتبة فنية (Pinacothèque) بالصويرة،
واهبا بسخاء المبدعين الحقيقيين مجموعة من أعماله الفنية الحديثة التي كانت معروضة
برواق المنزه العمومي، لكن بعض إكراهات مديرية الثقافة حالت دون ذلك إلى. استعلاء
على متاهة العالم الغربي وماديته، إيمان عميق بسلطة الرمز التي تسكن كينونة
الإنسان وصيرورته التاريخية، إرادة حازمة في خلق تقاليد فضاء عمومي خاص بالفن
والفنون التشكيلية في أحضان متحف سيدي محمد بن عبد الله، الذي دشن فلسفة حواره
وانفتاحه وبحثه الإثنوغرافي الفنان الراحل بوجمعة لخضر، منذ أوائل الثمانينيات إلى
حدود سنة 1989. فهل الفنان روجيرو هو المبدع الاستثنائي الذي حظي بحق الامتياز،
ليظل مخلصا لوصية الفنان بوجمعة لخضر التي مازالت تتردد على مدارج لوحاته
ومنحوتاته وجدارياته شامخة كنسر "دار الباز" الذي لا يكلم إلا أصحاب
الأذن الداخلية والعين الثالثة ! صرح لي روجيرو :" أتمنى أن يكون هذا المتحف،
في المستقبل العاجل، مكانا يجمع لوحات الفن التشكيلي المعاصر , وأن يكون عنوان
الكيفية والأسباب التي جعلت الفنانين يعملون وسيعملون في هذا العالم الساحر.".
للأسف أحبط هذا المشروع / الحلم الذي ظل يراود مثقفي هذه
المدينة الصامتة المعروفة بانسجامها الروحي والإبداعي، وعمق أصالتها الكونية التي
تتداخل فيها الجذور العربية الإسلامية والإفريقية. مازلت أذكر ما نص عليه محافظ
متحف سيدي محمد بن عبد الله، الباحث عزوز بوجميد في محتوى كلمته التي ألقاها يوم 5
شتنبر 1997، منطلقا من قول باحث في مجال المتاحف :"يعرف التراث عندما يشكل
فقدانه تضحية، وتفترض المحافظة عليه تضحيات.". مضيفا، أيضا، :" تفتح
المتاحف مسارات معارف الثقافات الأخرى، ومن هنا تساهم في التعايش وفهم الذات
والآخر.".
كان الراحل روجيرو يرى بأن الوقت قد حان لكي نتجاوز نظرتنا
الكلاسيكية للمتحف باعتباره مكانا للأشلاء أو لتحنيط التراث وتحويله إلى مومياءات.
إن مفهوم "التقاليد" برأيه مفهوم حركي، يشمل الماضي والحاضر والمستقبل،
لأن الأمر يتعلق بمسألة هوية وذاكرة جماعية مهددة في أي لحظة بالانقراض والمحو
والنسيان، كما أبرز ذلك الباحث المستقبلي المهدي المنجزة. إن المحافظة على التراث
و استمراريته وجهان لعملة واحدة، فالمؤسسة المتحفية – يستطرد روجيرو – يجب أن تعمل
دائما على إثراء وتعزيز محمولها التراثي عبر الأبحاث والدراسات، والانفتاح الدائم
على الهبات ومواكبة سوق "التحف الفنية". إن الهبة الرمزية للفنان روجيرو
التي خص بها فضاء متحف سيدي محمد بن عبد الله، تندرج حسب تأكيد الباحث عزوز بوجميد
ضمن ما أشار إليه "المرمم" الإيطالي بييرو كازولا في ما يتعلق بسيرورة
الحكم التي تنطلق من استيعاب المعنى
العميق للعمل الفني، وهي سيرورة طويلة وشاقة. أستحضر باعتزاز المعرض الجماعي
المتنقل "الصويرة، ألوان الرياح" الذي أقامه رواق "عطيل"
الدولي برسم سنة المغرب بفرنسا بشراكة مع عدة هيئات ثقافية فرنسية وإيطالية. كان
الراحل على رأس قائمة الفنانين الأحرار بالصويرة الذين اختاروا الحرية في الإبداع
واستقلاليته منهجا قائما في الحياة والفن معا، نذكر من بينهم شاما عطار، عبد
الرحيم حربيدة، أحمد حروز، محمد سنوسي، بوجمعة بوفوس، مارية بحتار، عبد الله ربيعة.
صديق العالم، هذا هو لقب الفنان الذي رحل عنا عام 2006 وفي قلبه "ولع كبير بالصويرة وتقدير بالغ
للمبدعين الشباب الذين التزموا بقطاع الفن وقضاياه"، كما صرح لي رفيق عمره
سيرجيو بلديني مدير رواق مريا آرتي.
منذ ريعان عمره، استطاع هذا الفنان أن يثير انتباه النقاد
والمنشغلين بالشأن الجمالي، حيث شارك في عدة معارض جماعية، وفرض حضوره النوعي في
معظم المحافل التشكيلية الدولية، هو الذي خبر بمعهد "سكيولا رومانا"
كيمياء كل التقنيات التصويرية والتزم، بوعي وتبصر، بالتجريب والتحديث في عوالم
الديزاين، والتصوير الصباغي، والسيراميك، والرسومات المصاحبة...إلخ. أقام روجيرو
عام 1980 بمدينة ميلان حيث كان مديرا فنيا لأكبر وحدة صناعية في فن السيراميك،
منفتحا على عوالم الفنون المطبقة بهاجس الجمع بين القيمة الجمالية والقيمة
الوظيفية للمنجزات الإبداعية. تفرغ لدراسة المواد التعبيرية دراسة معمقة قصد
تطويعها، واستثمارها في عمله الإبداعي ذي الحس الفني الفريد، خاصة الزجاج والخشب
والخامات الطينية. صرح لي في هذا السياق:" إن همي الأول والأخير، هو ترجمة
رغبتي في الوصول إلى الكمال الشكلي، وإبراز كل القيم الدلالية التي تعبر عنها
حساسيات الألوان والتخطيطات البارزة. تنم كل العوالم التي رسمتها عن أسلوب تعبيري
يرتكز على بلاغة الخط الذي يحمل كل تداعيات الجوهر وفن الإيجاز.".
في أواخر الثمانينيات، تألق اسم روجيرو، وارتهنت شهرته
الفنية بالرجوع إلى الأصل، واستغوار الجذور المتوسطية، حيث قام بإنجاز عدة قطع
خزفية تزاوج بين الهاجس التقني والمحتوى الفكري. لم يخف هذا الفنان حبه العارم
للمغرب ولأهله، إذ اختار إقامته الوجودية في رحاب مدينة الصويرة، فتفاعل مع
أزمنتها المتعددة وسكن طقوسها الجذبية حتى النخاع. هذا الحب الفني هو سر النفس
الجديد الذي يسري في تضاعيف أعمال روجيرو باختلاف مشاهدها التعبيرية وإيحاءاتها
الرمزية (الهلال، النجمة، السمكة، القطة التي تغير مجرى الأحداث...إلخ). ترى ما هو
السر في إقامة هذا الفنان بالمغرب منذ سنوات طويلة؟ كيف استطاع أن يخلق جسرا
ثقافيا ممتدا بين المرجعية التشكيلية لبلده والمرجعية الإلهامية والسحرية للمغرب؟
أسئلة عامة تشاكس أفق انتظار أي متتبع مهووس بالفنون الجميلة في كل أبعادها
الثقافية والحضارية، فالفنانون يقبلون على احتضان المغرب، باحثين عن أسطورة جديدة
لأعمالهم التشكيلية، بعيدا عن واقعية القرن 19 التي لا مجال فيها للحلم وللسحر
وللتعالي. زار دولاكروا المغرب عام 1832، كما زاره ماتيس عام 1913، وزاره نيكولا
دي ستايل عام 1936... زيارات للبحث والاكتشاف تندرج ضمن مبدأ الحلاج:" من يحب
يجد"، حيث وجد دولاكروا النور المطلق الذي كان يؤلم عينيه، مخلدا زيارته
التاريخية بقوله:" اذهبوا إلى بلاد البربر لتتعلموا الصبر والفلسفة".
"روما لم تعد في روما". "سيظل أبناء هذه السلالة القوية أحياء في
ذاكرتي طالما حييت، ففيهم وجدت جمال القدماء"...
إن متابعة روجيرو للاتجاهات الفنية بمدينة الصويرة منذ عام
1990 تشكل المنطلق الأساسي لإيمانه بخصوصية الفن في هذه القلعة الحضارية المتسمة
بالتعدد، والتنوع والبحث المستمر، بعيدا عن كل عملية "إمضاء فني" أو
"تدجين حضاري"... فالفنانون بمدينة الصويرة يرفضون استعارة صورة الحمام
المدجن التي تحدث عنها الكاتب الإسباني الكبير غويتيسولو في نطاق مقاربته لموقع
المثقفين المعاصرين. الواضح أن معظم الفنانين داخل الصويرة وخارجها يشتغلون بناء
على منطوق المثل القديم :" الأحسن أن تكون طائر الغاب، لا طائر القفص.".
سبق للفنان روجيرو أن أكد خلال "ذكرى إيطاليا
بالصويرة" عام 1993 بأن سحر هذه المدينة العجائبية قد انتقل من مجرد فضول
سياحي عابر إلى رغبة دفينة في الإنكباب على البحث والتجريب طبقا لما توحي به هذه
الورشة المفتوحة من أسرار وحقائق زئبقية. أسر لي في هذا الصدد:" عقدت العزم
على الإقامة بمدينة الصويرة، ليس للعيش في سن التقاعد والبحث عن الشمس، بل من أجل
المساهمة بحضوري في ارتقائها وتزويدها، بتواضع، بتجاربي ومعارفي"...
عاشق التبادل الثقافي والحوار الحضاري، هو روجيرو الذي ألف
كتابا استعاديا تحت عنوان "أحلم بالصويرة"، وهو كتاب حافل بالنبرة
الشعرية، واللمسات الإبداعية وكأنه رسم مغاير بالكلمة والصورة الإيحائية.
لا غرابة في ذلك، مادام الحب الكبير والسحر المباغت هما
ملتقى التواصل والحوار الجواني مع الفضاء:" أقر أنه منذ عشرين سنة خلت،
وعندما وطئت لأول مرة شارع محمد الخامس، أحسست أن بين هذه المدينة وبيني وقع ما
وقع، ألا وهو احتضانها لي بصدر
شكرا لك، روجيرو، فقد أيقظت بداخلنا طفولة أيامنا المنسية،
وعلمتنا إدراك العمل الفني بالعين والقلب معا. ما زلنا نستحضر كتابك الفني
"في الحضرة العالية" الذي ضم أعمالك بالصباغة المائية موازاة مع النصوص
الشعرية للباحث الجمالي موليم العروسي (منشورات مرسم). ألم ينشد هذا الأخير: سارت الروح متلهفة
إلى العلامات والرموز
أصبح الكلام بدون جدوى
واللغة المعجونة مجازا
من قبيل الهذيان
اخترت أن تدفن في حضرة الصويرة ومدارجها، مسكن حبك الأخير،
مرددا مع طبول سماواتها الصادحة ومزامير نوارسها :" هاهي تنادينا. انظر : هو
الجمال قد قام وهيأ القافلة استعدادا للرحيل. أيها المسافرون لم الرقاد."
(جلال الدين الرومي)
(ناقد
فني)
0 التعليقات:
إرسال تعليق