تشكيـل..
الوقائـع الفنـي
قالوا عن "خرائط المحو" للفنانين الشقيقين
الحَيْسن
الوقائـع بريـس
بحضور نخبة مائزة من الفنانين والأدباء
والمثقفين والطلبة، افتتح أواخر الشهر الماضي معرض الشقيقين الفنان والناقد التشكيلي ابراهيم الحَيْسن والراكَب
الحَيْسن، وذلك بالرواق الفني مؤسسة محمد السادس للنهوض بالأعمال الاجتماعية
للتربية والتكوين- الرباط.
بهذه المناسبة، صدر كاتالوغ من القطع المتوسط
يقع في 40 صفحة أنجز تصميمه الجمالي الفنان فيصل احميشان، وقد تضمَّن صور الأعمال
الفنية وحفل بنصوص تقديمية باللغة العربية لكل من الفنانة والناقدة المصرية أمل
نصر والفنان والناقد التشكيلي شفيق الزكَاري والباحث الجمالي محمد الشيكًر، مثلما
حفل بنصين تقديميين للناقدين مبارك حسني ولحسن لغدش.
شهادات ونصوص تقديمية
أمل نصر
فنانة وناقدة تشكيلية
رئيسة قسم التصوير بكلية الفنون الجميلة
بجامعة
الإسكندرية- مصر
تجريدٌ
بعبق الصحراء
على الرّغم من
الأصول الطبيعية التي يُرجع إليها الفنان ابراهيم الحَيْسن
تجربة معرضه "آثار مترحِّلة"
إلا أنه قدَّم الطبيعة بصيغة بصرية
تجريدية مشحونة بجملة من التأثيرات الانفعالية التي أضفت على تجربته دلالة وجدانية
خاصة ارتبطت بذاكرة الصحراء، وكشفت عن تمتعه بحساسية تصويرية تمنحه تلك النظرة
العاطفية للطبيعة.
وينضمُّ الفنان
إلى قطاع من المبدعين ارتكز على الطبيعة محلقاً نحو التجريد فاحتفاظه بعبق الصحراء
الذي يكتنزه قاطنوها ومحبُّوها يضفى على أعماله ذاكرة خاصة تصنع تلك الهالة
العاطفية حول أبنيته التصويرية التجريدية.
إن أعمال هذا
المعرض تغمر الأشكال المجرَّدة بمضامين انفعالية ووجدانية بأداء حرّ واستجابة
لحالة العفوية اللحظية، وقت مُمارسة العمل ومُكاشفة الخامات المختلفة ومحاولة
الاستفادة من تلك الحرية التي تمنحها الأشكال
المجرَّدة عن الارتباط بوصف أشياء محدَّدة،
فى مجال قادر على استحضار المعاني العاطفية والإنسانية والاستمتاع بالخامة حتى
تصنع مزيجاً يستقبل جيِّداَ المفردات البصرية التي طرحتها حالة كل عمل، فالأداء
السريع لِيَدٍ لا تخاف على شكل عنصر تفقده قد يُسهل مهمة التدفق الانفعالي القادر
على التواصل ونقل القيم التعبيرية، وقد يحمل التراكب المختلف التأثير للمسات
الصغيرة إحساساً بالألفة والتقارب، وقد يحمل خطاً مائلاً مندفعاً قيم العمق
واختراق الفراغ دون أن يعتمد الشكل على المنظور المعتاد، وقد يُعطي خطاً عرضيّاً
مرتفعاً في لوحة تجريدية إحساس الأفق البعيد دون احتياج لوجود سماء وبحر وأرض.
وأحياناَ ما يبدو العمل كأنّما يُصور مشهداً لديناميكية الطاقة من خلال شلال من
الأشكال والألوان مشحوناَ بالاحساسات والصور الذهنية والمرئيات.
وتسعى أعمال الحَيْسن لاكتشاف الشكل من
خلال اللون بواسطة طرح مساحات اللون بلمسات عريضة حرَّة وطبقات شفافة متراكبة، ثمَّ
يبدأ في اكتشاف الأشكال خطيّاَ، وهو يمنح اللون البطولة الأولى هرباً من محاصرة
الخطوط ومن ثمَّ يستسلم لسطوة اللون وحضوره واتجاه اللمسات في اندفاعها وتعثرها
مكوِّناً أشكاله الخاصة التي
تظهر وتختفي، تكبر وتتضاءل، تنكشف وتنطمر بقوة دافعة وفقاً لقانون عاطفي خاص
باللوحة فلا نعرف أين تبدأ وأين تنتهي، حيث يُتاح للخواطر البصرية أن تسترسل وأن
تتوارد. إنها فكرة التداعي الحر التي تطرح وفقها الأشكال والعناصر، بل إن هذا
البناء رغم حريته محكوم بنوع من النظام الفطري الغريزي.
وفيه تظهر الصور بين الحين والأخر فى تدفقات غير مُتماثلة وفقاَ لآلية الطرح
الخاصة بالذاكرة فتعطى حيوية للخيال في محاولة لتلمس تلك الطاقة التنظيمية الرُّوحية
التي تجعل حياتنا محتملة ومستمرة.
شفيق الزكاري- فنان وناقد تشكيلي
إبداعٌ من رحم واحد
إبراهيم والراكَب
الحَيْسَن، تجربتان لفنانين من رحم واحد، يلتقيان في معرض ثنائي، يجمع بينهما التعبير
التشكيلي في قالب لا يخلو من عامل التأثير والتأثر في فضاء موحّد، بمرجعيتين
تختلفين على مستوى معالجة القضايا التشكيلية، وتتقاطعان في ما هو معرفي وثقافي
بحمولتهما التراثية المرتبطة بالتربة والمكان.
كل منهما يغرف من معين مُعَيّن، بتقنيتين وأسلوبين خاصين، يتجلى في العناصر
المؤثثة للمساحة الإبداعية المستوحاة من فضاء الصحراء بشساعتها وتاريخها وأدبياتها
وتراثها..، برؤيتين بعيدتي المدى لا يحدهما الأفق ولا يسيِّجهما الاستلاب.
هو لقاء، وحوار الأخ مع أخيه، بلغة جمالية تستغني عن الكلام المباح، هي لغة
الهمس والحس ضمن تجربتين احتفاليتين باللون، تمتحان من قواسم إبداعية محلية
مشتركة، جعلتا من الذاكرة الثقافية الصحراوية مصدراً للإلهام، بصوت موحّد في
الفكرة والرؤية، ومختلفتين في المعالجة.
إن تجربة الفنان ابراهيم الحَيْسَن من وجهة
نظرنا، مغامرة بكل المقاييس الشكلية والموضوعية، انتساباً إلى فراسته المعهودة في
التكوين الفيزيولوجي والثقافة الصحراوية البدوية التي كان يتحلى بها العرب
القدامى، وانتسابا لتجربته وممارسته الصباغية وتكوينه النقدي، بينما تجربة الفنان الراكَب
الحَيْسَن، إذا كانت لا تقترن بما هو نظري على مستوى الكتابة والبحث المعرفي كما
هو الحال عند أخيه ابراهيم، فإنها تقتفي أثرها من داخل وعمق التجربة الميدانية على
مستوى التطبيق والممارسة، لتجعل مما هو مرئي، عتبة لحوار يفضي لما هو نظري، لتصبح
هذه التجربة ملاذاً للغة مرئية، كبنية تحتية تحوَّلت في مضمونها الجمالي إلى نصوص
نقدية.
محمد الشيكر-
باحث في الجماليات
المحو وشعرية
الترحل
ليست الصحراء عنواناً على جغرافية
الجدب والفراغ والصمت الجنائزي، بل هي بخلاف ذلك فضاء ينهض على ناموس جغرافي
قوامه الحركة والتقلب والتناسخ والمحو وعدم استقرار عناصر الطبيعة والوجود على
قرار. فكل شيء في الصحراء مترحل متنقل: الرمال والرجال والعير والمزن والرموز
والعلامات وسجلات المخيال والذاكرة. وما ينطبع على سجاد الرمل لا يلبث أن ينمحي من
غير أن يندرس، ويتناسخ من دون أن ينطمس. والفنانان المبدعان الأخوان إبراهيم الحَيْسن
والراكَب الحَيْسن من هذه السلالة المتحدرة من خرائط الصحراء، ويخبران شعرية
الترحل والمحو التى تعتمل عناصرها الأنطولوجية والإستتيقية على أوقيانوسات الرمل.
وقد وفقا في أن يجعلا منها مفردة جمالية تمهر منجزيهما البصريين الضالعين في
الفرادة والمغايرة، كما صنعا منها، كل على منواله، مسوغاً إستتيقيّاً ومنظومة
إسناد مرجعية. و في خرائط المحو التي يدعوان عين المتلقي إلى ارتيادها، تغدو
كل العناصر البصرية من تشكيلات وكتل وهيئات وبلاغات كروماتية أبجدية
ضرورية لاستعادة ما انمحى، وتهجي الرموز المتفلتة على طروس الرمل وسبر قسمات
الوجوه المتغضنة، والأجساد المنذورة للغياب.
إن خرائط المحو التي يستغورها الفنانان
إبراهيم و الراكَب تنتظر العين الحصيفة التي تستقرئ الطروس وتعيد
ترميم ما تخفى خلف خفقات الملاحف والأجساد الشفيفة، أو توارى تحت سرير
الرمل وتموُّجات الكثبان..
بنيونس عميروش-
فنان وناقد تشكيلي
لوحات الزَّي في مقابل تقشف اللون
يندرج اشتغال الفنان ابراهيم
الحَيْسن حول الزي التقليدي النسائي في الصحراء، لاسيما الملاحف المعروفة بطابعها
الشعبي المتميِّز الذي لا يخلو من مظاهر جمالية متعدِّدة..إن استعارة المبدع أشكال
الملحفة، إنما هي طريقة في انتزاع البُعد الوظيفي للزَّي، ومنحه صفة التسطيح
والتمثل، عبر إعادة التنظيم من خلال تقطيع المساحة (مساحة معينة من الزَّي) على
شكل مستطيل عمودي عموماً، من دون التدخل في العناصر (الشكل، اللاشكل، اللون..). من
ثم يقوم بتشديد إبراز مختلف التدخلات والتجاوزات والتفاعلات التشكيلية التي تجعل
مرأى الثوب مماثلاً لطبيعة اللوحة، وتجعل ملمسه مكوِّناً من مكوِّنات المادة بوصفه
من نوع القماش الشفاف (في أغلب الأحيان) الذي يكشف تمفصلات نسيج خيوطه.
أما أعمال
الفنان الراكب الحَيْسَن فتضعنا أمام مفارقة كروماتيكية تتعلق بعنصر اللون. اللوحة
الواحدة (على حدة) تمنحك الانطباع بتقشف لوني يشير إلى
الميل نحو المونوكروم أو اعتماد لونيْن على الأكثر (اللون ونقيضه- اللون
ومُكَمِّلُه)، فيما تمنحك سلسلة الأعمال في كُلِّيتها الإحساس بنوع من الإفراط في
تنويع اللون، كأن الأمر يتعلق بمشهدية ربيعية، أو بمقاطع مشتقة من مناظر طبيعية
وجغرافية، بالرغم من الاجتياح البَيِّن للنبر التجريدي.
هذا النبر
التصويري البعيد عن الواقع المرئي، المتماسك والقائم على العفوية والتبقيع، إنما
اختيار تجريبي يجعل من اللطخة وحدة تعبيرية قابلة للمَدّ والتقليص، التفريش والتغطية،
الحجب والكشف. بينما عامل التكرار، أي توالي لمسة الفرشاة العريضة، تتفاقم في
تجاوب تام مع الجسد المحموم، إلى أن تغطي القماشة بكاملها. والعملية التنفيذية في
مجملها، تتفاعل باسترسالية إيقاعية، يقدر ما تستند -من داخل الإيقاعية العَمَلية
نفسها- إلى التشذيب والترك والدَّوْزَنة والتصحيح.
0 التعليقات:
إرسال تعليق