ثقافـة وفنـون..
دراسـات ومقاربـات
محمـد أسليم
تضيع الكتابة الأدبية، الروائية منها بالخصوص، حاليا عندنا،
كما عند غيرنا، في التقاط تفاصيل الحياة القصيرة، وتتيه في تجريب تقنيات الحكي وكافة
ضروب الألاعيب اللغوية، ناسية - أو متناسية - التعبير عن جوهر وجود الإنسان الذي لا
يجب بأي حال من الأحوال الفصل فيه بين بُعدين: الأول حقيقي كبير، ممتد في الزمان والمكان،
يتصل فيه الجسد بالمجرات والنجوم (ومكوناتنا شاهدة عِلميا على هذا الامتداد، حيث يتألف
جسم كل واحد منا من شظايا نجوم وبقاياها (مياه، معادن، الخ)...، أما البعد الثاني،
فمحدود في الزمان والمكان، وهو هذه الإقامة
الأرضية الظرفية العابرة التي نسميها خطأ بـ «الحياة»، ونختزل وجودنا فيه إلى «ولادة»،
فـ «حياة»، ثم «موت»، ومهمتنا إلى التزوُّد بطاقة البقاء، وصرف النفايات، ثم العمل
والتوالد، وما يتفرع عن ذلك... فنحن في الحقيقة لا نولد ولا نموت إذا استحضرنا حقيقة
أن وجودنا هو في الواقع وجودان: أحدهما أكبر، يتجذر في طرفين قصيين يتعذر علينا بلوغهما
و/أو الحضور فيهما بهيأتنا وتركيبتنا الحاليتين، هما بداية الكون ونهايته، والثاني
أصغر هو حياتنا الأرضية الحالية القصيرة الظرفية التي لا تعدو مجرد حلقة تتوسط الطرفين
القصيين الأنفين، إلا أننا نسجن أنفسنا فيها عن خطأ أو عن تعام أو عماء. علينا جميعا
باعتبارنا نوعا، وأفرادا باعتبار كل شخص هو عضو داخل عائلة النوع الكبرى، أن نمد في
حياتنا كما في كتابتنا الأدبية، أن نمدَّ جسرين: أحدهما يربطنا بالبدايات (المكانية
والزمانية) الكونية الماضية السحيقة والآخر يربطنا بنهاياته (المكانية والزمانية) الآتية
البعيدة.
تروادني، منذ مدة، فكرة كتابة رواية في هذا المنحى بالذات،
تكون شخصيات العمل الروائي بشرية (وهل يمكن مباشرة سرد من خارج هذا الموقع، مادامت
اللغة والسرد نشاطين ينفرد بهما الإنسان عن باقي المخلوقات الأرضية المعروفة حتى الآن؟)
إلا أنها تستحضر في داخلها ماضيها السحيق الممتد في النجوم وتاريخ الكون الطويل، والمتنقل
عبر حلبات متنوعة «آخرها» هي النظام الشمسي، وتحديدا في أحد كواكبه الإحدى عشر المعروفة
حتى الآن، وهو الأرض، تستحضر ذلك الماضي، فتتذكر وقائع وأحداث جرت لها أيام لم يكن
النظام الشخصي قد وُجد بعدُ، وربما حتى قبل ذلك بوقت طويل، إلى ما قبل تشكل مجرة درب
اللبانة التي لا تعدو أن تكون مجرد واحدة من بين مائة ألف مليار مجرة التي يتألف منها
الكون، في حدود ما يخبرنا علم اليوم، فيما لا تعدو الأرض مجرد واحد من مائة مليار كوكب
التي تؤلف مجرة درب التبانة.. تتذكر تلك الشخصيات الروائية أفعالا ومشاغل صدرت عنها
وكانت لها أيام لم يظهر الجنس البشري بعد الذي لم يظهر في خشبة الكون إلا منذ بضع ثوان
على أكثر تقدير، إذا تموضعنا في سلَّم الزمن الكوني، ... أيام كانت تلك الشخصيات مخلوقات
أحادية الخلية، وأيام هيمنة الدينصورات، وأيام حياتها فوق الأشجار، الخ. الخ... إن
تأتى لي أو لأي إنسان غيري سردُ هذه الملحمة الطويلة في يوم من الأيام فسأكون شخصيا
قد حققت أكبر حلم في حياتي، واعتبرتُ أني عشتُ فعلا هذه الحياة، وقصصت حكاية وجودي
فعلا فيه، مُنتجا بذلك عملا أدبيا موازيا لقصة الإنسان في الكون كما يرويها لنا العلمُ
اليومَ.
الخطوط العريضة لهذا النوع من الحكي نجدها في الأعمال العلمية
التي تدخل في باب الكونيات كما نجد قسما منه في تخصص الأحفوريات وما جاوره، ما يفسح
المجال للتساؤل: هل العلم الآن - بكشوفاته المتقدمة وبالحكي الذي يقدمه عن الكون منذ
نشأته الأولى حتى النهاية، وعما يسميه بملحمة الجنس البشري، وتقاعس الأدب عن مواكبة
النتائج العلمية بحكايات أدبية - هو الآن بصدد سحب البساط من الأدب والانفراد بالحكي
على نحو سيصير هو الحاكي الأكبر؟ هذا من جهة، من أخرى، إذا اعتبرنا التحولات الجارية
في مسرح الأرض، متمثلة في انتصار الليبرالية الجديدة، ومد العولمة، وتدشين لبنات حضارة
كوكبية، وتغيير وسيط الكتابة، في سياق حوسبة كاملة للعالم، فقد يأخذ السؤال السابق
كامل مشروعيته، ويدعو إلى تعميق التفكير في إيجاد إمكانيات بقاء الأدب في غمرة التحول
و«تهديد العلم»، ربما...
0 التعليقات:
إرسال تعليق