وجهات نظر..
عائد
من القاهرة: مدينة الانتظار
خالد الشامي
كان مفترضا أن
تكون إجازة مستحقة بين الأهل في مصر، في ختام عام دراماتيكي بكل المقاييس، إلا
أنني قضيت الأسبوعين الماضيين في دراسة متأنية لواقع المشهد المصري، مصغيا إلى
أطراف وشهادات ومواقف متباينة سياسيا وأيديولوجيا وجغرافيا تغيب للأسف، على
أهميتها، عن الصورة غير الدقيقة التي تصدرها وسائل الإعلام، انتصارا لأجنداتها
وليس للحقيقة.
وهذه خواطر سريعة
تلخص نتائج نظرة متأنية ومتجذرة في وضع متحول، مازال يحمل العديد من المفاجآت.
أولا: على السطح،
يستطيع أي زائر للقاهرة هذه الأيام أن يرى بوضوح علامات ‘الصراع′ متمثلة في حرب
كتابات الجدران بين أنصار الإخوان وخصومهم، آو أعمدة الدخان السوداء الناتجة عن
حرق مظاهراتهم للإطارات في يوم الجمعة، وما يتبعها غالبا من غازات مسيلة للدموع لا
يسلم منها حتى الناس الذين آثروا السلامة وقرروا البقاء في بيوتهم في يوم إجازتهم
الوحيد، إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.
وإذا كنت من سكان
مدينة نصر أو المعادي أو المهندسين أو الهرم، وهـــي أحياء كبيرة في القاهرة، فلن
يكون قطع الطرق أو الكمـــائن الأمنية أو حرق السيارات وأحيانا المحلات، خاصة يوم
الجمعة شيئا غريــــبا عن حيــــاتك، التي لم تكن سهلة أصلا مع استمرار المشاكل المزمنة
لهذه المدينة الضخمة، التي لا تتعب من الثـــورة ولا تمل من الانتظار. إلا أن هذا
لا يتعارض مع حقيقة جلية هي أن الحياة مستمرة في أنحاء البلاد بشكل شبه طبيعي،
وستظل كذلك وان تضاعف حجم هذه المشاكل أو المظاهرات مرات عديدة، لان هذه هي طبيعة
مصر.
أما المعنى وراء
هذا فيشبه كثيرا تفاصيل هذا الموضوع في تعقيده والتباسه، إذ يدل على أن جماعة
الإخوان مازالــــت نشيــــطة تحت الأرض رغم القرار الرسمي باعتـــبارها إرهابية،
وان الحكـــومة المســلحة بقانـــــون التظاهر، والمســــتفيدة من أجواء الإحباط
الشعبي والحملات الإعلامية، مازالت عاجزة عن حسم هذه المواجــــهة، في الوقت الذي
تصر فــــيه على أن حجــــم المظاهـــرات ضئيل.
لكن إصرار بعض
أنصار الإخوان على اللجوء إلى العنف منذ البداية كرس وجود الجماعة كـ’ظاهرة
أمنية’، بلا برنامج أو مشروع سياسي واضح، يعطي للناس فرصة للآمل بدلا من اليأس
والتعايش في مواجهة الإقصاء، وهذا خطأ تاريخي.
وتصر جماعة
الإخوان على أن اللجوء إلى العنف جاء كرد فعل على عنف السلطات في رابعة وغيرها،
ونتيجة لاعتقال القيادات، ما ترك الجماعة جسدا بلا رأس. وستجد في الشارع المصري من
يقول انه ليس إخوانا، وانه شارك في مظاهرات يونيو، لكنه أصبح ‘يتعاطف معهم لأنه
يكره الظلم’، إلا أن المحصلة النهائية لم تصب في مصلحة الجماعة عندما خسرت الصراع
السياسي ولم تربح في المواجهة الأمنية، بل إن البعض يرى أن الحكومة ليست متسرعة في
التعامل بحسم مع هذه ‘الظاهرة الأمنية’، باعتبار أن ما تحصده من ورائها من فوائد
سياسية، وعلى رأسها تأمين غطاء شعبي للتحولات المرتقبة في المرحلة المقبلة، اكبر
من أضرارها المؤكدة التي تلحق بصورة الدولة وهيبتها والحالة الاقتصادية المتدهورة
أصلا.
ثانيا لا يمكن
لزائر القاهرة أن ينجو من ‘القصف المتواصل’ من الحملة الإعلانية الحكومية الضخمة
التي تدعو الناس، بل وتلح عليهم ليصوتوا بنعم في استفتاء الدستور، مع أن المفترض
أن الحكومة محايدة في مهمتها المتمثلة بالإشراف على الاقتراع. وكان من
المفهــــــوم أن تدعو الحكومة الناس إلى المشاركة، تاركة لهم القــــــرار بشأن
قبـــول الدستور أو رفضه. ويعود هذا الأسلوب الحكومي إلى عقلية عهد مبارك عندما
كان متوقعا من الشعب أن يقبل بالنظام كخصم وحكم في الانتخابات، وهذا يكرس بدوره
قلقا مشروعا وحقيقيا من أن جماعة الفلول التي استعادت الصدارة في بعض الجبهات
الإعلامية والسياسية تسعى إلى تجيير الثورة لمصلحتها، ما يعني عمليا انتصار الثورة
المضادة.
وفي الحقيقة أن
بعض إصرار الحكومة على هذه الحملة الإعلانية الواسعة التي أرهقت ميزانيتها
المنهكة، يعود إلى إدراكها حجم الإحباط الشعبي من أدائها، خاصة على المستويين
الأمني والاقتصادي، وان بعض الناس قد يقرر المقاطعة ليس لأنه مؤيد لمرسي، ولا لأنه
معارض للسيسي، ولا رافض للدستور، ولكن لأنه يشعر بأنه يتعرض للخديعة، وان الثورة
قد تتعرض للسرقة مرة أخرى. هؤلاء الناس تحديدا وليس الإخوان أو أي حزب معارض آخر
هم الخطر الحقيقي والمسكوت عنه الذي يهدد النظام الحالي.
ثالثا ارتكب
الإخوان خطأ آخر عندما دعوا إلى مقاطعة الاستفتاء بدلا من التصويت بلا، وهم الذين
يبنون موقفهم السياسي على ضرورة احترام صندوق الاقتراع، وأيضا لان أغلبية كبيرة من
المصريين سيشاركون في الاقتراع ما سيظهر عزلة موقف الإخوان أمام العالم، وسيسمح
للنظام بان يقول أن شرعــية الاستفتاء تجب أي شرعية سابقة.
والواقع أن
المشاركة الواسعة المتوقعة للمصريين في الاستفتاء لا تعود إلى أنهم جميعا قرأوا
الدستور، أو يعرفون ما يحمله من اختلافات عن دستور 2012، ولا أنهم جميعا يؤيدون
النظام الحالي أو حتى الفريق أول عبد الفتاح السيسي، كما يوحي بعض أبواق النفاق
التي تتصرف مثل الدب الذي يقتل صاحبه، ولكن لان الناس يعرفون جيدا أن مصر لا
تحكمها الدساتير ولا القوانين، ولكن أساليب تطبيقها، التي تعتمد على هوية من يقوم
بهذا.
وبكلام آخر، فان
نعم قوية للدستور، تعني رغبة ملحة في إنهاء الفترة الانتقالية، والتحرك قدما إلى
الأمام، بعد ثلاث سنوات عجاف من الاضطرابات والتدهور المعيشي.
ولا يمكن، ولا
يجب أبدا أن تكون ‘نعم الدستور’ نعما للفريق السيسي، حيث إن هذا يعني العودة إلى
عهد الاستفتاءات الرئاسية، بدلا من الانتخابات المتعددة التي كانت إحدى ثمار الثورة،
وهذا يعمل على تكريس الصورة القميئة نفسها التي يروجها البعض ومفادها أن ثورة
يناير كانت ‘مؤامرة أمريكية اخوانية’ (..).
رابعا شهدت
الساحة الإعلامية تحولا نوعيا، مع استئساد برامج ‘التوك شوز′ ظنا منها أنها تقف
وراء مظاهرات الثلاثين من يونيو التي غيرت وجه الحياة في بر مصر، وقد ترسم مصير
المنطقة بأسرها. وسارعت أجهزة أمنية متنافسة أو متعاونة إلى عمل برامج خاصة بها
كنافذة للتأثير مباشرة في المشهد السياسي، عبر إذاعة تسريبات تقضي على ما تبقى من
مصداقية للنخبة السياسية، وتطبق المثل الشعبي المصري الشهير (اضرب المربوط يخاف
السايب)، وهو ما أثار استياء رئيس الحكومة شخصيا، إلا أن الفارق الشاسع في حسابات
القوة، أصبح كفيلا بأن تمارس هذه البرامج نوعا من الإرهاب أو البلطجة الإعلامية ضد
النظام الحاكم نفسه، ناهيك عن جماعة الإخوان أو باقي القوى السياسية.
ومن المثير أن
نرى إن كان الدستور الذي يتحدث عن ميثاق شرف إعلامي ومجلس وطني للإعلام سيكون أفضل
حظا في مواجهة هذه المافيا الإعلامية.
أخيرا، وفي
الزيارة الأخيرة أثناء وبعد التحولات التاريخية في الثلاثين من يونيو والثالث من
يوليو، كان الأمل والتفاؤل من جهة أنصار التغيير، والغضب من الجهة الأخرى العنوان
الأبرز للوضع في أنحاء مصر. أما هذه المرة فقد أصبح الأمل يواجه حالة من الإحباط
والقلق المشروعين، بينما تحول الغضب إلى ما يشبه اليأس.
أما الخلاصة
الأهم فان الكرة مازالت في الملعب، والصراع السياسي مازال على أشده، وإذا كان من
نزل في الثلاثين من يونيو يريدها ثورة، فعليه إلا يكتفي بتأييد الدستور، بل عليه
أن يجعله درعا في مواجهة أي محاولة لتحـــويلها إلى انقلاب عسكري.
وإذا كانت جماعة
الإخوان تريد إن تنقذ نفسها، فعليها أن توقف كافة مظاهر العنف فورا، وان تعرضت
للظلم، وان تراهن على طبيعة الشعب المصري السمحة، وان تركز على العمل السياسي الذي
هو ابرز نقاط ضعف النظام، أمام شعب محبط، لم يعد يعرف كم ثورة يجب عليه أن يشعل
ليحظى بالحد الأدنى من العيش والحرية والعدالة الاجتماعية.
كاتب مصري
0 التعليقات:
إرسال تعليق