نوستالجيا..
الكار
الحمر السواقي
كتب: سعيد فردي
أذكر وأنا طفل صغير، بالكاد
تلميذ في القسم التحضيري، أول ابتدائي، كان يصحبني أبي معه إلى الأسواق الأسبوعية،
المجاورة لبلدتي، حتى أعينه وأساعده على تجارته، في البيع والشرا، خاصة في أيام الآحاد
وخلال العطل المدرسية ..
تجارته التي كانت تبدو للكثيرين
أنها بسيطة وربما تافهة، ولكن منها عشنا وتربينا وتعلمنا.. كان أبي، رحمة الله عليه،
يبيع الخيام، "القياطن ديال الباش"، و"السيوانات والستور"، وجميع
أنواع "الباش"، من الثوب ومن البلاستيك...
كان يبيعها للحريفية والسليعية
الذين يتاجرون في مختلف السلع والمواد، من
خضر وفواكه، ولحوم وفواكه جافة، وكل ما يعرضونه في الأسواق القروية، التي تلتئم في
كل يوم في منطقة، ويتردد عليها السواقة من فلاحين ومزارعين، وزائرين وموظفين، والرجال
والنساء والأطفال والشيوخ والكهول، وحتى الحيوانات والدواب..
قبل هذا التاريخ، كان أبي،
رحمه الله، كي يبيع "الكبوط"، كان يتاجر في الملابس المستعملة، فيما كان يسمى "البال"، وهي
كوليات ورزم تضم مختلف أنواع الملابس، من سراويل وفساتين ومعاطف وغيرها، وحتى القبعات
وربطات العنق الأوروبية، ملابس كان يتم جلبها من إيطاليا وفرنسا على وجه التحديد...
ملابس "البال"
كان متخصص فيها التجار اليهود المغاربة، وكان أبي يأتي ب"كولياتها" من الدار
البيضاء، يشتريها من بائعي الجملة بالحي التجاري المعروف، والشهير بدرب عمر، وكما أسلفت،
كان معظم من يتجار في "البال" يهود مغاربة..
ولا زلت أتذكر، وأنا طفل،
كيف كنت افرح كثيرا واشعر بالفخر والاعتزاز، وحتى بنوع من التميز والتفوق على أقراني،
الذين كانوا يقرؤون معي في الفصل، بالمدرسة، عندما أرتدي قطعة من ملابس "البال"
التي كان يبيعها أبي ويجلبها من درب عمر، يشتريها من أصدقائه اليهود المغاربة الذين
كان يتعامل معهم..
كان يحكي لنا أبي بانتشاء،
مبالغ فيه، كيف كان هؤلاء التجار من اليهود المغاربة يستقبلونه باهتمام وحفاوة، حفاوة
منقطعة النظير، بمحلاتهم ودكاكينهم الشهيرة، الكائنة بدرب عمر والمنتشرة بأحياء قديمة
معروفة بالدار البيضاء، وكانت تتعدى حفاوتهم بأبي محلاتهم التجارية، كما حكى لنا مرارا..
لقد حكى لنا أبي كيف كان
يقضي هؤلاء التجار اليهود المغاربة يوميات حياتهم الاعتيادية، وحتى عن طقوسهم الدينية
والمناسباتية، فكم من مرة صادف وجود أبي استعداداتهم لليلة يوم السبت، كيف يسبتون،
بتعبير ولغة أبي، رحمة الله عليه، فهم لا يشعلون النار ليلة السبت، بمعنى أنهم يمسكون
عن الطهي والطبخ في تلك الليلة بالذات، وحكايات وقصص كثيرة كان يحكيها لنا أبي، نقلها
أو دونها في مذكراته وذاكرته التي لا تمحى أو يصيبها النسيان أو الصدأ والتلف، هي ذكريات
أبي في زمن آخر غير زمننا هذا، ذكريات معاملاته التجارية مع التجار اليهود المغاربة
الذين كانوا يتاجرون في ملابس "البال" تلك..
كان أبي، رحمة الله عليه،
يحكي لنا كل هذا، ونحن... أنا وأخي الأصغر مني وأمي، رحمها الله، منهمكون في تحديد وكي ملابس "البال" وطيها
وترتيبها داخل "كوليات" خاصة، في انتظار أن يحملها أبي في صباح اليوم الموالي
باكرا، على متن العربة الحديدية بعجلتين، "الكروسة" التي كنا نملكها ونضعها
مربوطة خارجا، أمام باب بيتنا في الحي الذي نقطنه..
وبالطبع، أنا من كان يقوم
بمهمة جر أو دفع تلك "الكروسة" المحملة بـ"كوليات" ملابس
"البال"، يتبعني أبي من الوراء، في اتجاه الحافلة "الكار الحمر السواقي
... الكار بونيف" هذا الكار العجيب الذي افتقدته اليوم، وأنا صغير، كنت أتأمل
وجه "الكار بونيف" بفضول مبالغ فيه، واجهته الأمامية التي كانت في ذلك الوقت،
لا تشبه واجهات حافلات النقل الحديثة اليوم، فاغلبها واجهاتها مسطحة، عكس واجهة ووجه
"الكار الحمر السواقي" ، والحقيقة وللتاريخ، كنت معجبا بواجهته الأمامية
البارزة أيما إعجاب، كنا نسمي هذا النوع أو الفصيلة من الحافلات النقل الجماعي بــ"الكار
مول الخنشوش" أو "الكار اللي عندو النيف"..
عندما أصل دافعا "الكروسة"
إلى موقف الحافلات والطاكسيات والعربات المجرورة تجرها الدواب وحتى الإنسان، وسط الفيلاج
حيث يقف "الكار الحمر السواقي... الكار بونيف"، أركن العربة الحديدية جانبا،
يهرول ناحيتنا مساعد سائق "الكار بونيف" أعني "الكريسون"، نعينه
على حمل "الكوليات" على ظهره المقوسة، ظهره التي فعل بها الزمان المقيت أفاعيله،
ويطلع سلم الكار بحذر، مشوب بعزيمة وثقة في النفس بــ"الكوليات" واحدة تلو
الأخرى، و"الكولية" الواحدة قد تزن على الأقل، في الغالب 30 أو 40 كلغ، ويركنها
في إحدى جنبات سطح "الكار" ويربطها بالشبكة المفتولة من حبال غليظة، يسمونها
"حبال الشتب"..
ينزل "الكريسون"
من على سطح "الكار الحمر بونيف" ويناوله أبي قطعا نقدية، لا أتبين قيمتها،
هل هي قطع من الدراهم بيضاء أم قطع من فئة 50 سنتيم "العشرة دريال الصفرة"
الشهيرة، التي كانت تتميز بثقلها مقارنة مع باقي القطع النقدية التي كانت رائجة آنذاك،
والتي إذا ما قذفت بها أحدهم على رأسه، حتما ستجرحه وتسيل منه دماء..
يناولني أبي درهم أو درهم
ونصف وربما درهمين، حسب مزاجه، أدفع العربة "الكروسة" وأعود أدراجي إلى البيت،
أركن العربة أمام الباب وأنسل على فراشي لاستأنف نومي، حتى توقضني أمي لأفطر، أحمل
محفظتي وأتوجه إلى المدرسة..
في طريقي إلى المدرسة التي
كان يفصلنا عنها السوق القديم السوق الأسبوعي، لابد لي من أن أمر من وسط "رحبة الفواكه الجافة" والسوق
خال في اليوم الموالي ليوم انعقاده، فعادة هذه المساحات الخاصة ببائعي الجوز واللوز
والحمص والتمر و"الشريحة" بمختلف أصنافها، وخاصة منها "مزيويرة"،
وما إلى ذلك...
عندما يجمعون سلعتهم وأغراضهم
لابد ما تضيع منهم بعض القطع النقدية، فهم عادة ما ينهمكون في البيع وما يستخلصونه
من زبنائهم، يضعونه تحت خشبة الميزان الأصفر، وتكون هناك احتمالات كبيرة من أن تنزلق
قطع نقدية وتختفي في التراب..
كنت كلما مررت بهذه
"الرحبات" ونبشت في مكان الميزان، لابد وأن أعثر على قطعة نقدية، درهم أو
عشرة صفراء، أو على الأقل "ربعة دريال" و"لا جوج دريال"..
0 التعليقات:
إرسال تعليق